نظرة عامة عن جريمة غسيل الأموال في الفقه والقانون المقارن
![]() |
د. محمد أحمد الكوهجي |
إن غسيل الأموال يمكن أن تظهر مساهمته في الجريمة، مصدر الأموال غير المشروعة بشكل واضح من خلال نشاط المساعدة التي تتمثل بالأعمال المسهلة والمتممة لارتكاب هذه الجريمة (الأصلية)، فالمصرف على سبيل المثال يُمكن عميله من الاستفادة من الأموال القذرة التي يحصل عليها بطريق غير مشروع، وذلك من خلال قيام المصرف بقبول هذه الأموال غير النظيفة وتحويلها إلى اعتمادات أو ودائع مصرفية، بحيث يصبح تداولها أو التعامل بها أكثر سهولة ويسر، أو أن تقوم هذه المصارف بتوظيف هذه الأموال بصورة استثمارات متلاحقة ومتنوعة تهدف إلى إخفاء مصدرها غير المشروع، وعليه يمكن أن نتصور أن المصرف هو شريك في الجريمة التي يحصل منها المال غير المشروع.
ومما يزيد من وجاهة هذا الرأي هو أن نظرية المساهمة الجنائية يمكن أن تشمل جميع الجرائم من دون استثناء فكل جريمة تدخل في إطار قانون عقابي، سواء أكان قانون العقوبات أو أي قانون آخر يمكن أن تكون مرتكبه في إطار المساهمة الجنائية، وعلى الرغم من منطقية الرأي عند النظر إليه للوهلة الأولى، فإنه لم يستطع أن يستوعب جريمة غسيل الأموال وتقف في وجه الرأي السابق جملة من الانتقادات بعضها موضوعية وأخرى إجرائية، أما الانتقادات الموضوعية فتتمثل بـ:
1- إن التشريعات العقابية حددت وسائل الاشتراك وهي (التحريض والاتفاق والمساعدة).
ويشترط في هذه الوسائل لكي نكون أمام اشتراك في جريمة أصلية أن تكون سابقة أو معاصرة لارتكاب الجريمة، أي بمعنى أنه لكي يعدّ الشخص (مساهمًا تبعيًا) شريكًا ألا يكون النشاط الذي قام به قد تم بعد وقوع الجريمة الأصلية.
وعليه، إذا نظرنا إلى نشاط غسيل الأموال يتبيّن لنا أن الشخص الذي يقوم بهذا النشاط (سواء كان شخصًا طبيعيًا أو معنويًا)، إنما يقوم به بعد وقوع الجريمة الأصلية التي تحصل منها المال غير النظيف المراد تبييضه، وهكذا نجد أن شرط المعاصرة أو السبق في نشاط الشريك على تنفيذ الجريمة الأصلية لم يعد موجودًا، ومن ثـمّ لم تعد موجودة تبعًا لذلك صفة المساهمة التبعية في نشاط من يقوم بتبييض الأموال.
2- إن من عناصر الركن المادي في المساهمة التبعية هو وجود رابطة سببية بين نشـاط الشريك وجريمة الفاعل، فإذا ما تخلفت هذه الرابطة تخلف تبعًا لها الركن المادي في المساهمة التبعية، فحيث لا رابطة سببية بين نشاط الشريك وجريمة الفاعل فهذا يعني أن نشاط الشريك لم يكن له دور في الجريمة التي وقعت، ومن ثمّ فإن الجريمة واقعة وبالشكل الـذي وقعت به وإن لم يرتكب ذلك الشخص نشاطه.
وحيث إن نشاط تبييض الأموال قد وقع بعد وقوع الجريمة الأصلية، فهذا يعني أنه لا وجود لعلاقة سببية بين نشاط تبييض الأموال وفعل الفاعل الأصلي، ومن ثمّ لا يمكن وصف نشاط تبييض الأموال بالمساهمة التبعية.
3- أن مجرد إغفال البنك أو المصرف أو المؤسسة المـالية عن الواجب القـانوني المتمثل بالرقابة والتحري عن مصدر الأموال المودعة لديه أو المحولة عن طريقه لا يمكن عده مساهمة في الجريمة الأصلية (الجريمة التي أفرزت الأموال غير المشروعة)؛ لأن مجرد الامتناع لا يكفي لإطلاق وصف المساهمة التبعية.
وحتى لو تم الأخذ بالرأي الذي يذهب إلى إمكانية وقوع الاشتراك بطريق الامتناع (المساعدة بطريق الامتناع)، فإن الامتناع هنا جاء بعد وقوع الجريمة التي أنتجت الأموال الجاري تبييضها والمساعدة كوسيلة للاشتراك يجب أن تكون سابقة على بدء الفاعل في تنفيذ الجريمة أو معاصرة لتنفيذها، فالامتناع لم يكن في الفرض المتقدم (عنصرًا رئيسًا في خلق الجريمة، وإنما اختلط بآثارها فقط).
أما فيما يتعلق بالعقبات الإجرائية فنعني بها تلك العقبات التي تضعف من فعالية الملاحقة الجنائية في مواجهة نشاط تبييض الأموال، خاصة عندما ترتكب جريمة تبييض الأموال عبر شبكات عالمية منظمة تعمل في أكثر من دولة،
فقد ترتكب جريمة الإتجار بالمخدرات داخل إقليم بلد معين (الجريمة الأصلية) ثم تتم عمليات تبييض الأموال المتحصلة من هذا النشاط الإجرامي في إقليم دولة أخرى، ويصادف أن النظام القانوني في الدولة التي تمت فيها جريمة الاتجار بالمخدرات لا تمنح محاكمها اختصاص النظر بجريمة تبييض الأموال كونها لم تقع في إقليمها.
وبالمقابل، فإن الدولة التي اُرتكب في إقليمها (جريمة تبييض الأموال) قد لا يمنح نظامها القانوني الاختصاص لمحاكمها للنظر في جريمة تبييض الأموال؛ كونها مجرد فعل من أفعال (المساهمة التبعية)، وأن (المساهمة التبعية) ينعقد الاختصاص للنظر فيها للدولة التي اُرتكب في إقليمها الجريمة الأصلية (جريمة الاتجار بالمخدرات).
تعليقات
إرسال تعليق