الخلط بين حسن النية وعدم الدراية بالقانون

 
د. محمد أحمد الكوهجي


 تتم في اليوم الواحد آلاف المعاملات التجارية والمدنية، لذا ننصح دائمًا كافة الموكلين او الجمهور العادي بالحرص على ان تكون كافة المعاملات مكتوبة حتى لو كانت بين الاسرة الواحدة، فالمستقبل دائمًا يعطي دروسًا مختلفة والمحاكم تعج بآلاف القضايا بسبب هذا الأمر، لذا وضع لنا جل شأنه القواعد التي لو تم اتباعها لا نذل ولا نشقى حينما قرر سبحانه وتعالى في القرآن العظيم، وتحديدًا في الآية رقم 282 من سورة البقرة:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».


كما قرّر سبحانه في الآية رقم 14 من سورة التغابن:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وإذا كان الشرع يحذرنا من بعض الأقارب ذوي الدرجة الأولى، فما بال من لا نعرفهم أو كانوا من الأجانب، فالخطب جلل والكتابة لأي التزامات لا تعيب الفرد ولا تقلل من شأن أحد، حيث لا يحق للفرد ان يدفع امام القضاء بالجهل بالقانون وذلك لأن القانون يفترض علم الناس به بمجرد نشره بالجريدة الرسمية، وهذا مختلف تمامًا عن مبدأ حسن النية وشرف المعاملات، إذ إن المقصود بها ان تكون أمينًا في التعاملات ولا تتحرى الكذب أو الغش الى آخرها من العيوب، والواقع أن الجهل بـ«القاعدة القانونية» لا يعتبر عذرًا للإعفاء من تطبيقها، وافتراض العلم بالقاعدة القانونية قاعدة موضوعية لا يجوز مخالفتها، وهي مبنية على اعتبارات العدالة والمساواة بين الأفراد أمام القانون، فاعتبارات العدالة والمساواة تقتضي ألا يفتح الباب أمام الاعتذار بجهل القانون، وإلا سادت الفوضى وفتح الباب للتحايل للهروب من تطبيق القاعدة القانونية.

قاعدة «عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون» تسري على القوانين كافة أيًا كان مصدرها، وسواء كانت قاعدة آمرة أو قاعدة مكملة، واستثناءً من هذه القاعدة يجوز الاعتذار بالجهل بالقانون في حالة استحالة العلم بالقانون لوجود -قوة قاهرة- تحول دون وصول الجريدة الرسمية إلى إحدى المناطق بسبب فيضان أو حرب بحيث يستحيل أن تصل الجريدة الرسمية إلى هذا المكان، إذ إنه إذا ما تم نشر التشريع بالجريدة الرسمية ودخل حيز التنفيذ قامت قرينة قانونية على علم الأفراد به. إن مبدأ حسن النية من المبادئ الأساسية في القوانين المدنية، وقد نصت الكثير من القوانين على مبدأ حسن النية فحرمت كل فعل أو ترك يتعارض مع حسن النية، وإذ إنه في كثير من العقود التي يبرمها الناس بينهم في المعاملات المالية أو التجارية، يتم النص على التزام طرفي العقد تنفيذه بكل حسن نية، وفي حال عدم النص عليه يمكن الاستدلال عليه من خلال مظاهره كالالتزام بحدود القانون وعدم الالتجاء في تنفيذ العقود إلى ما يخالف القانون كالغش والتواطؤ باعتبارها من مظاهر سوء النية.

كما أن الأصل في العقد هو شريعة المتعاقدين، فإن مبدأ حسن النية يعد عنصرًا أساسيًا من عناصر هذه القاعدة، فحسن النية هو تعبير عن المحافظة على الثقة والصدق في التعامل ويستلزم الأمانة والاخلاص والنزاهة في تنفيذ الالتزامات المترتبة على كل طرف أطراف العقد، ويعتبر اللجوء الى مثل هذا المبدأ قد يخفف الكثير من صرامة بعض النصوص القانونية، والتي قد يؤدي تطبيقه بحرفيته الى ما يخالف روح العدالة وجوهرها. مما سبق نعتقد ان الفارق واضح ما بين حسن النية والجهل بالقانون.

تعليقات

المشاركات الشائعة